سورة المائدة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} [المائدة: 5/ 38- 40].
نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبّأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد هذا، فلما تنبّه قتادة للسرقة، التمسها- أي الدرع- عند طعمة، فلم يجدها، وحلف ما أخذها، وماله بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه حتى وصلوا إلى بيت زيد، فأخذوا الدرع منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النّساء: 4/ 107] ثم نزلت آية السّرقة لبيان حكمها.
وروى أحمد وغيره عن عبد اللّه بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول اللّه؟ فأنزل اللّه في سورة المائدة: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والمعنى: فيما فرض عليكم أو يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، فمن سرق من ذكر أو أنثى، فاقطعوا يا ولاة الأمور أيديهما أي من الرّسغ كما أوضحت السّنة النّبوية، جزاء لهما على سرقتهما وما كسبت أيديهما، ولانتهاك حرمة مال الآخرين، لأن السرقة قد تجرّ إلى الدفاع عن المال وإلى القتل، وتنكيلا وإهانة وتحقيرا لهما من اللّه لأن فعلهما خسيس ودنيء يستوجب الإذلال، والزجر عن العودة للسرقة، وإيقاع عبرة لغيرهما، واللّه قوي غالب في تنفيذ أوامره، حكيم في تدبيره وصنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه الحكمة والمصلحة، واختيار الأنسب للجريمة.
أما من تاب من بعد ظلمه بالسرقة، وأناب إلى اللّه، ورجع عن السرقة، وردّ أموال الناس إليهم، وأصلح نفسه وزكّاها بعمل البر والتقوى، فإن اللّه يقبل توبته، فلا يعذّبه في الآخرة، وإن اللّه غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم إذا صلحوا.
ألم تعلم أيها الرسول وكل مؤمن أن اللّه هو المالك لجميع السماوات والأرض ومن فيهما، يتصرف في ذلك بالعدل والحكمة والعلم الواسع والفضل العظيم، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده، ويرحم التائبين، ومن حكمته وعدله أنه وضع حدّا للسرقة لزجر اللصوص وردعهم، توفيرا للأمن والاستقرار، وتحقيقا لمصالح العباد، واللّه هو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة.
ومن خلال التجربة والتطبيق تبين أن الحدود الشرعية هي المحققة لمصلحة الناس العامة والخاصة، فلا مانع من الجريمة أحكم وأعدل وأصلح من حدود اللّه المقررة في القرآن المجيد.
لكن ينبغي أن نعلم أن حدّ السرقة لا يقام على السراق إلا بشروط كثيرة، فيشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا، لا صبيّا ولا مجنونا، وألا يكون مأذونا له في الدخول إلى مكان الأموال، لا ضيفا أو خادما، ولا قريبا ذا رحم محرم من المسروق منه، ولا مالكا للمسروق، وأن يكون المسروق مقدّرا بنصاب شرعي وهو دينار ذهبي فأكثر في رأي الحنفية، أو ربع دينار في مذهب الجمهور، وأن يكون المسروق مالا متقوما، أي يباح الانتفاع به شرعا، لا كنحو خمر أو خنزير أو كلب أو ميتة أو دم مثلا.
وهناك شرط عام في الحدود كلها وهو ألا توجد شبهة فالحدود تدرأ بالشبهات، وباب الشبهة واسع يجعل إمكان تطبيق الحدّ نادرا، وينتقل حينئذ إلى عقوبة تعزيرية أخرى غير الحدّ، كالحبس والضرب والتوبيخ. ومن تاب من فعله وأصلح نفسه، سقطت عقوبته، واللّه يحبّ التائبين.
المسارعة في الكفر:
أنزل اللّه تعالى الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن متضمنة الشرائع الإلهية لتنظيم الحياة البشرية لأن الحياة التي لا يضبطها تشريع أو قانون هي حياة فوضوية تشبه حياة الغابة، لا سعادة ولا أمن ولا قرار فيها، القوي يأكل الضعيف، والكبير يستبدّ بالصغير، والمتنفّذ يظلم غيره ويجور في حكمه وتعامله معه بحسب أهوائه ونزواته ومطامعه وشهواته. لذا استنكر القرآن الكريم معاداة الشرائع والكتب الإلهية، ووصف المتجاوزين لأحكامها بأنهم يسارعون في الكفر ويبادرون إلى الضلال ويعملون بالأخلاق المرذولة، فقال اللّه تعالى مسرّيا ومقوّيا نفس نبيّه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل:


{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} [المائدة: 5/ 41- 43].
نزلت آية المسارعة في الكفر- كما روى أبو داود- في رجل وامرأة من اليهود زنيا، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النّبي فإنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند اللّه، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك قال. فأتوا النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلما سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك، نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس، فجمع الأحبار هنالك، وسألهم عما في التوراة من حكم الزّناة المحصنين أي المتزوجين، فقالوا: يحمم وجه الزّاني، أي يطلى وجهه بالسّواد من فحم أو قار (زفت) ويجبّه الزانيان، وقالوا أيضا: إنا لا نجد الرّجم في التوراة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إن فيها الرّجم، فانشروها، فنشرت، ووضع أحدهم يده على آية الرّجم، فقال عبد اللّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرّجم، فحكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيها بالرجم وأنفذه.
والآية تحذير عام وتذكير، وتثبيت وتقوية لنفس النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ومعناها: قد وعدناك أيها النّبي النصر والغلبة على هؤلاء المنافقين واليهود، فلا يحزنك ما يقع منهم خلال بقائهم، ولا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر، فإنهم أحد فريقين: إما أنهم منافقون يظهرون الإيمان بألسنتهم، دون أن تؤمن قلوبهم، وإما أنهم يهود يبالغون في سماع الكذب من أحبارهم، الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حقّ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وفيما يتعلّق بأحكام دينهم، ويبالغون في سماع أقوام آخرين من اليهود هم يهود فدك لم يأتوا مجلسك يا محمد لشدة كراهيتك والحسد عليك، أو هم بمعنى كونهم جواسيس يتنصتون للكلام لينقلوه لقوم آخرين.
وهم أيضا يحرّفون كلام التوراة من بعد أن وضع اللّه مواضعه ببيان فروضه وإحلال حلاله وتحريم حرامه، يقولون لمن أرسلوهم للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم لسؤاله عن حكم الزانيين: إن أفتاكم بالتسخيم أو التحميم (تسويد الوجه) والجلد، فاقبلوا منه وارضوا به، وإن أفتاكم بالرّجم فاحذروا قبوله، ولا ترضوا به، ثم يقطع اللّه لنبيّه الرجاء منهم، قائلا له: لا تتبع نفسك أمرهم، فهم في مرصد الاختبار، والامتحان بالكفر والتعذيب في الآخرة، وقد اختاروا الضّلال، وسبق في علم اللّه ألا يطهّر قلوبهم من السّوء، وأن يكونوا مدنّسين بالكفر، فقرّر اللّه لهم الخزي في الدنيا، أي الذّل والمسكنة، وقرّر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
ثم أكّد اللّه تعالى اتّصافهم بصفة دائمة أنهم سماعون للكذب، أكّالون للسّحت أي المال الحرام من أخذ الرّشوة وغيرها، فإن جاؤوك أيها النّبي وكل حاكم بعدك للاحتكام أو التّقاضي، فأنت مخيّر بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم، وإن أعرضت عنهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم لأن اللّه حافظك وعاصمك من الناس، وإن حكمت بينهم في قضية، فاحكم بينهم بالعدل الذي أمرك اللّه به، وهو شريعة القرآن، إن اللّه يحبّ العادلين ويرضى عنهم. وتخيير الحكام باق، وهو الأظهر إن شاء اللّه كما قال ابن عطية.
وكيف يحكّمونك أيها النّبي في قضية مثل الزّانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم اللّه، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أجل! إن التّلاعب بأحكام اللّه وشرائعه ومحاولة التهرّب منها لا تفيد شيئا، فإن الحقائق ناصعة، ومن تنكّر للحقيقة تعرّض للخزي والهوان في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وقانا اللّه تعالى من الانحراف وألهمنا الاستقامة على شرعه ودينه.
تشريع القصاص:
تميّز القرآن الكريم بالحيدة والموضوعية وإظهار الحقائق في بيان الأحكام التشريعية فلا تعصّب فيه لشريعة أو اتّباعها على حساب شريعة أخرى لأن مصدر التشريع الإلهي واحد وهو اللّه عزّ وجلّ، فكما أن القرآن المجيد نور وهداية دائمة، كذلك التوراة والإنجيل هدى ونور، وكما أن القصاص أو عقوبة الإعدام أمر مقرر في الشريعة الإسلامية، فهو كذلك مقرر واجب في الشريعة الموسوية، وإنكار ذلك كفر وظلم وفسق.
قال اللّه تعالى:


{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)} [المائدة: 5/ 44- 47].
نزلت هذه الآيات في اليهود الذين بدّلوا حكم التوراة في الرجم، فجعلوا مكانه الجلد والتسخيم، أي تسويد الوجه وطلاءه.
والمعنى العام: إنا أنزلنا التوراة على موسى عليه السّلام، مشتملة على الهدى والنور، والهدى: الإرشاد في المعتقدات والشرائع، والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وهي قانون يحكم بها الأنبياء المخلصون لله من عهد موسى بن عمران عليه السّلام إلى مدة مجيء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم، ويحكم بها أيضا الرّبانيّون، وهم العلماء الحكماء الذين يسوسون الناس بالعلم، ويحكم بها الأحبار: وهم العلماء رجال الدين، بسبب ما استحفظوا على كتاب اللّه شهداء ورقباء وحفاظا يحمونه من التغيير والتحريف.
وإذا كان الحال كما ذكر فلا تخافوا الناس أيها الأحبار، ولا تكتموا الحق، من صفة النّبي والبشارة به، طمعا في نفع دنيوي عاجل، وخافوا اللّه وحده، فلا تحرّفوا كتابه، خوفا من أحد أو مجاملة لأحد، فتسقطوا الحدود الواجبة عليهم، ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة قليلة عاجلة تأخذونها من الناس، من رشوة أو طمع في مال أو جاه أو رضا الآخرين، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة سحت حرام لا بقاء لها ولا بركة فيها، واعلموا أيها العلماء أن من لم يحكم بما أنزل اللّه، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق.
واعلموا أيها الأحبار العلماء أننا أنزلنا التوراة، وفرضنا فيها على بني إسرائيل عقوبة القصاص من القتلة، على أساس المساواة والمماثلة، فتقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، ويقلع السّن بالسّن، ويجري القصاص أي التماثل في الجروح والاعتداءات على الأعضاء. لكن من عفا عن الجاني وتصدق بحقه في القصاص، فالتّصدق كفارة له، يستر اللّه بها ذنوبه ويعفو عنه، والعفو أفضل، قال اللّه تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} [البقرة: 2/ 237]. ومن أعرض عن تشريع القصاص القائم على العدل والمساواة بين الناس، ولم يحكم به في القضاء، فأولئك هم الظالمون أنفسهم وغيرهم، الذين يتعدون حدود اللّه، ويضعون الشيء في غير موضعه.
ثم ذكر اللّه تعالى في قرآنه أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل، فقال: وأتبعنا مجيء النّبيين وذهابهم والسّير على آثارهم بعيسى ابن مريم عليه السّلام، فهو آخر نبي لبني إسرائيل، مصدّقا للتّوراة التي تقدمته قولا وعملا، أي مقرّا بأنه كتاب من عند اللّه وأنه حق واجب العمل به، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل، وأخبر اللّه تعالى أنه أعطى عيسى الإنجيل فيه الهدى، أي الإرشاد والدعوة إلى توحيد اللّه وإحياء أحكامه وشرائعه، وفيه النّور: وهو أن ما فيه مما يستضاء به، وأن الإنجيل مصدق ومؤيد لما جاء في التوراة، وهو أيضا سبب للاهتداء به وإرشاد الناس في المستقبل لما يأتي بعد الإنجيل وهو القرآن، ونبي الإسلام، والإنجيل كذلك موعظة حسنة للمتقين لاشتماله على النصائح والإرشادات البليغة، وخصّ المتقون بالذكر لأنهم المقصودون به في علم اللّه، ولأنهم الذين ينتفعون بتلك المواعظ. ثم أمر اللّه تعالى بأن يعمل أهل الإنجيل بالأحكام التي أنزلها اللّه فيه، ومن لم يحكم بما جاء في الإنجيل فأولئك هم الفاسقون، أي المتمرّدون الخارجون عن حكم اللّه وشرعه.
شريعة القرآن:
الشرائع الإلهية حلقة متصلة الروابط، متكاملة متساندة فيما بينها، يؤكد بعضها بعضا، ويكمل آخرها أولها، لتتآزر فيما بينها وبين أتباعها على تحقيق مراد اللّه تعالى فيما يحقق المصالح ويدفع المضارّ والمفاسد، وينقل الناس إلى ما هو الأفضل والأمثل بحسب مقتضيات الحاجة ومراعاة قانون التطور ومنجزات الحضارة والتقدم، لذا جاء القرآن الكريم مؤيدا ما سبقه من التوراة والإنجيل، فقال اللّه تعالى مخاطبا نبيّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8